يدور جدل في مصر حول تغيير منظومة دعم الخبز التمويني “العيش البلدي” من الدعم العيني إلى الدعم النقدي المشروط بحلول العام المالي 2022-2023. وقال الوزير في تصريحات إعلامية يوم السبت الموافق 1 يناير الحالي إن الهدف هو رفع كفاءة الدعم ووصوله إلى مستحقيه وتقليل “الفاقد” في الدعم العيني، لأن المواطن لا يقدر حجم دعم رغيف العيش الذي تقدمه الحكومة له، حيث وصلت تكلفته الفعلية إلى 65 قرشًا بإجمالي 50 مليار جنيه، ويستفيد منه 70 مليون مواطن. ولا يرى المواطن من دعم الخبز إلا القروش الخمسة التي يدفعها في ثمن الرغيف، فيزيد استهلاك الخبز نتيجة لانخفاض السعر، ثم يسيء الاستخدام فيأكل وجه الرغيف ويترك قاعدته.
نظام الدعم الحالي في مصر، وهو الدعم العيني، معمول به منذ منتصف القرن الماضي، وهو يسمح للمواطن بالحصول على احتياجاته من الخبز البلدي في مقابل 5 قروش للرغيف الواحد، تذهب إلى حساب هيئة السلع التموينية التي تستكمل بدورها قيمة تكلفة الإنتاج وتحولها إلى حساب صاحب المخبز. حاليا تدعم الدولة كل رغيف بـ60 قرشًا، بمعدل 90 جنيهًا شهريًّا تذهب إلى مستوردي القمح وأصحاب المخابز. وفي سنة 2014 تم تخفيض الحصة إلى خمسة أرغفة للفرد في اليوم.
ويقصد بالدعم النقدي المقترح، أن تحول الدولة مبلغًا نقديًّا محدّدًا مباشرة إلى حساب رب الأسرة في بطاقة التموين بقيمة عدد الأرغفة التي ستحددها الحكومة وبحد أقصى لـ4 أفراد من الأسرة، وسيستطيع من خلاله الحصول على حصته من الخبز المخصصة له يوميًّا، كما يحدث في صرف مقررات السلع التموينية حيث يحصل المواطن على كمية من السلع بقيمة 50 جنيهًا تحول له في بطاقة التموين.
وقد حقق الدعم النقدي كفاءة ونجاحًا في تحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع الدخل في معظم الدول المتقدمة اقتصاديًّا منذ منتصف القرن الماضي. وقبل ثلاثة عقود، طورت دول في أمريكا اللاتينية، مثل البرازيل والمكسيك، نظام الدعم النقدي إلى الدعم النقدي المشروط. ويقصد به أن الدولة تدعم الأسر الفقيرة بمبلغ نقدي، وفي المقابل يلتزم المواطن بتنفيذ عدد من الشروط، مثل انتظام الأطفال في مراحل التعليم المختلفة، وتطعيم المواليد، وتحديد النسل.
ونجح النظام المطور في علاج فقر الأسر من خلال التحويلات المالية المباشرة، ونجح كذلك في علاج فقر الأجيال الجديدة، بالاستثمار في تنمية رأس المال البشري بالتعليم وتخريج شباب قادر على الكسب.
بعد نجاح التجربة اللاتينية، دار جدل في مصر حول التحول من الدعم العيني للخبز والسلع التموينية إلى الدعم النقدي. وما زال الجدل مستمرًّا حتى الآن. حيث يظن البعض أن الدعم العيني كله عيوب، وأن النقدي كله مزايا. والحقيقة أن كل نظام له مزايا وفيه عيوب. وقد ينجح الدعم النقدي في دولة ويفشل في أخرى، بحسب الوضع الاقتصادي للدولة ومستوى الشفافية والرقابة.
مزايا الدعم العيني
في الدول الفقيرة التي تعاني من مستويات التضخم العالية، يصبح الدعم العيني أفضل من الدعم النقدي، لأن مستويات التضخم المرتفعة سوف تمتص جزءًا كبيرًا من الدعم النقدي وتزيد معاناة الفقراء. أما الدعم العيني فسيكون علاجًا لخفض مستويات التضخم. وأثبتت التجارب الاقتصادية في دول عديدة أن التحول إلى الدعم النقدي في ظل بيئة اقتصادية متردية يكرس التضخم ويزيد الأسعار.
في سنة 2005 أجرى مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري دراسة بعنوان، الأبعاد الاقتصادية والتوزيعية للتحول من الدعم العيني إلى الدعم النقدي للخبز البلدي. ورغم أن هدف الدراسة كان يدور حول وضع الآليات والسياسات والمتطلبات اللازمة للتحول إلى الدعم النقدي للخبز وباقي السلع التموينية، التي كانت تشمل الأرز والسكر والزيت والعدس والمسلى النباتي والفول والمكرونة والشاي، قبل قصرها على الثلاثة الأولى وإلغاء البقية، فإن الدراسة خلصت إلى أن للدعم العيني فوائد اجتماعية لا ينبغي إغفالها.
وهي أنه يضمن توفير الخبز والسلع الأساسية بأسعار منخفضة للفقراء، ويساهم في تحسين مستوى التغذية للأسر الفقيرة وأطفالهم. ومع ذلك أوصت الدراسة بالتحول إلى الدعم النقدي نظرًا للجدوى الاقتصادية، حيث يوفر نصف تكلفة الدعم العيني، ويمكن من توسيع مظلة البطاقات التموينية لتشمل المواليد الجدد ومزيدا من الأسر الحديثة الزواج.
الطريف، أنه رغم التوصية بالتحول إلى الدعم النقدي، فقد حذرت الدراسة في نهايتها من تفعيل توصيتها، وقالت إن الدعم النقدي سوف يضاعف سعر رغيف الخبز بأربعة أضعاف، وسيصل السعر إلى 20 قرشا، مما يجعل القرار محفوفا بتداعيات اجتماعية وأمنية خطيرة ينبغي تقديرها بدقة تحاشيًّا لقلاقل قد تؤثر على الاستقرار السياسي في البلاد. وتراجع النظام عن التحول للدعم النقدي.
بعد أزمة الغذاء العالمية في 2008، كشف البنك الدولي عن أن منظومة دعم الخبز والسلع التموينية في مصر، قد مكن 9% من المصريين من الصمود فوق خط الفقر، وقال إنه بدون دعم الغذاء، وخاصة الخبز البلدي، كانت نسبة الفقر في مصر سترتفع إلى 30%، مقابل 20% قبل الأزمة.
ورغم هذه الفوائد، فإن للدعم العيني عيوبًا لا يمكن تجاهلها أيضا. فهو يصل إلى غير مستحقيه من الأغنياء قبل أن يصل إلى مستحقيه من الفقراء، كما أن تكلفة توصيل الدعم العيني للمستحقين عالية، إذ تصل إلى 30% تقريبًا من قيمة السلع التموينية والخبز المدعوم، تذهب في صورة رواتب لموظفي الرقابة على توزيع الخبز والسلع التموينية التابعين لوزارات التموين والداخلية والعدل.
أما الفساد المالي المحيط بمنظومة الدعم العيني فلا تخطئه عين؛ حيث يتم التعاقد مع موردين بعينهم في مقابل عمولات تذهب إلى المسؤولين. ولهذا السبب، يُحاكم عدد غير قليل من المسؤولين في ديوان الوزارة العام. أما نوعية الخبز والسلع التموينية التي تقدم للمواطنين في منظومة البطاقات التموينية فهي رديئة وناقصة الكمية. وكثيرا ما تتسرب السلع التموينية وتباع في السوق السوداء مباشرة أو بعد تغيير عبواتها الأصلية تحت أعين أجهزة الرقابة.
مزايا الدعم النقدي
أولًا: وصول الدعم لمستحقيه من محدودي ومعدومي الدخل ومنع تسريبه إلى القادرين. وهي العلة التي تتذرع بها الحكومة لتحويل الدعم العيني أو السلعي إلى نقدي، أو من دعم السلعة إلى دعم المواطن. وهو بالفعل ميزة لا تتوفر في الدعم العيني، حيث تجد السلعة المدعومة طريقها إلى القادرين، الذين يتمسكون بالبطاقة التموينية، في حين أن كثيرا من الأسر الفقيرة والحديثة الزواج محرومون هم وأطفالهم من الحصول على بطاقات تموينية منذ عام 1989.
ثانيًا: انخفاض تكلفة توصيل الدعم النقدي للمستحقين، من خلال التحويلات البنكية المباشرة في حساب البطاقة الذكية للمواطن، وبالتالي يمكن زيادة الدعم النقدي للمواطن بنفس قيمة تكلفة توصيل الدعم العيني. ويمكن إلغاء وزارة التموين تماما، والاكتفاء بلجنة في الحكومة لمراجعة قيمة ومستحقي الدعم النقدي، كما يقع في كثير من الدول.
ثالثًا: سهولة تقدير قيمة الدعم النقدي برقم ثابت في الموازنة العامة للدولة. أما الدعم العيني فيصعب التنبؤ بقيمته حتى نهاية السنة المالية. حيث تتغير قيمته بتغير أسعار القمح، مادة صناعة الخبز، من وقت لآخر في السوق الدولية، وهو ما ينعكس مباشرة على تكلفة الخبز. ذلك أن مصر هي أكبر مستورد للقمح في العالم، حيث تستورد 75% من احتياجاتها من الخارج، حوالي 13 مليون طن. كما تتغير قيمة دعم الخبز بتغير دعم الوقود، السولار والغاز الطبيعي، المستخدم في تشغيل المخابز، الذي تتغير تكلفته بحسب أسعار البترول في السوق الدولية أيضا.
عيوب الدعم النقدي
أولًا: ارتفاع الأسعار لدرجة تفوق قدرة الفقراء على شراء السلع. خاصة في الدول غير المنتجة أو الدول المستوردة للغذاء مثل مصر، حيث تستورد 60% من الغذاء بقيمة 15 مليار دولار سنويا. وقد كشفت دراسة لمركز معلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء في سنة 2005، بعنوان “بدائل تطوير نظام الدعم الغذائي في مصر” عن تقرير للبنك الدولي رصد الآثار الاقتصادية المتوقعة نتيجة تطبيق الدعم العيني. وكان أهم هذه الآثار، ارتفاع الأسعار وزيادة التضخم.
وفي حالة عجز الإنتاج عن تلبية احتياجات المستفيدين من التدفقات المالية في الدعم النقدي، تزيد أسعار السلع دون أن تحدث زيادة في معدلات استهلاك المستفيدين، نظرًا لعدم توافر السلع التي تقابل الطلب. وضربت الدراسة عدة أمثلة لذلك. في سيريلانكا، بدأ تخفيض الدعم العيني سنة 1976 وانتهى تماما في سنة 1982. في هذه السنوات، زادت أسعار السلع الغذائية بنسبة 100%، وزاردت أسعار الخبز بنسبة 170%. وفي الأردن، بدأ التحول عن الدعم العيني في سنة 1990 وانتهى تماما في سنة 1996. في هذه السنوات، زادت أسعار الخبز من 0.085 دينار للكيلوغرام، إلى 0.22 دينار، أي بنحو 159%.
ونتيجة ارتفاع الأسعار، قامت الحكومة في سيريلانكا بزيادة رواتب العاملين في القطاع العام وفي القطاع الخاص، وزادت الرواتب بطريقة غير مباشرة بتخفيض الرسوم على الصادرات والواردات. وزادت الاستثمار في القطاع الزراعي لتعزيز إنتاج الغذاء محليا. وفي الأردن، قررت الحكومة زيادة التحويلات المالية للفئات المتضررة وأصحاب الرواتب المنخفضة.
وفي السنوات الأخيرة، حدثت زيادات في أسعار السلع التموينية عند التحول من الدعم العيني إلى النقدي العيني. حيث زادت أسعار الأرز من 1.5 جنيه للكيلوغرام إلى 9 جنيهات، وزادت أسعار السكر من 1.25 جنيه للكيلوغرام إلى 10.5 جنيهات، وزادت أسعار الزيت من 3 جنيهات إلى 18 جنيها للتر ثم 25 جنيها.
ثانيًا: تآكل قيمة الدعم النقدي في ظل زيادة أسعار السلع الغذائية عالميا والتراجع المستمر للقدرة الشرائية للجنيه. ومع الاعتماد على الخارج في استيراد القمح بالدولار، يتوقع أن يؤدي تطبيق الدعم النقدي إلى زيادة أسعار الخبز إلى مستويات تاريخية، ويعجز المبلغ المخصص لدعم الخبز عن شراء الكمية الضرورية ويضطرب استقرار الأسر التي لا تجد سوى الخبز أو العيش لسد الرمق.
وقد كشف مؤشر منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة عن ارتفاع أسعار القمح والسلع الأساسية بنسبة 33% في سنة 2020، وتوقعت أن تستمر الزيادة بسبب تأثر الإنتاج العالمي من الغذاء بالتغيرات المناخية وزيادة أسعار الأسمدة والوقود.
ثالثًا: احتمال وقوع أزمات الخبز واختفائه من المخابز، وعودة حوادث ضحايا طوابير الخبز التي انتشرت قبل ثورة يناير، وأن يختفي من بعض المحافظات كما اختفت السلع التموينية، الأرز والسكر والزيت، من محلات السلع التموينية ومن السوق في أوقات مختلفة وفي محافظات عديدة بعد تحويل دعم السلع التموينية إلى النقدي العيني.
والخلاصة، أن الدعم العيني للخبز يظل حتى الآن، مع ما يشوبه من قصور، هو الوسيلة الفعالة لعلاج السياسات الاقتصادية، ولتحقيق العدالة الاجتماعية، والمساواة في توزيع الثروة، وإنصاف سكان الريف المحرومين من الخدمات، والتخفيف من آثار البطالة، وبسط الاستقرار الأسري، وتعزيز الأمان والسلم الاجتماعي، والسلامة والصحة النفسية لأفراد المجتمع، وتقليل تكاليف علاج الأمراض المصاحبة للفقر وسوء التغذية، وتقليل جرائم العنف والقتل والسرقة والسطو.
Note: This article have been indexed to our site. We do not claim legitimacy, ownership or copyright of any of the content above. To see the article at original source Click Here